الاثنين، 14 نوفمبر 2022

 
قانونا البقاء و الزوال، و الفهم الماركسي للدولة

لا يمكن أن يصدرَ عمّن يفهم الجدلَ حقيقةً ذلك الفهمُ الماركسيّ المتأخرّ للسلطة، و الذي جعل منه لينين أساسا لأكثر الأفكار السياسيّة استعلائيّة و بعدا عن الجدل. الفكرة الأساسيّة لهذا المقال هي أن ماركس المتأخّر و لينين معا فشلا في تجسيد الفهم الجدليّ سياسيّا بسبب نزوعهما نحو السلطويّة السياسيّة. هذا لا يعني بالضرورة أنّهما لم يفهما الجدل على المستوى النظري، و لكن الفهم النظريّ شيء، و التنزيل الماديّ شيء آخر. ينطلق هذا المقال من فكرة لا يرفضها الماركسيون، و هي أنّ قوانين الجدل المادّي هي التي تحكم كلّ الأنظمة الموجودة في الكون، لا حاجة للتفصيل أكثر عند هذه المرحلة. الفكرة الثانيّة التي لا يوجد لها أثر في الممارسة السياسيّة الماركسيّة، و هي أنّ الأنظمة تكون أكثر كفاءة كلّما زاد خضوعها لقوانين حركة المادّة، و العكس صحيح، أيّ أنّ كفاءة الأنظمة الماديّة تتناقص طرديّا كلّما زاد البون بين القوانين العاملة في هذه الأنظمة و قوانين الجدل ( قوانين الديناميكا الحراريّة في الفيزياء تجسيد للجدل ).
الأنظمة الطبيعيّة، في شكلها العضويّ و اللاعضويّ معا، هي أكثر الأنظمة كمالا في كلّ الكون. و ذلك نظرا لخضوع هذه الأنظمة لقوانين الجدل بدرجات متفاوتة. كلّما نزلنا في سلّم الحياة، نحو المادّة الصمّاء بعيدا عن الحياة العضويّة، كلّما زاد بعدنا عن الأنظمة المقيّدة، و كلّما قلّت أخطاء النظم الداخليّة و أعطابه في مستويات الوجود هذه. بالمقابل، كلّما ابتعدنا عن مستوى الطاقة الخالصة في شكلها الما دون ذريّ، نحو المستويات الفيزيائيّة فالكيميائية ثم الفيزيولوجيّة، كلمّا بدأ الحديث عن أعطاب داخليّة و محدوديّة زمانيّة و نقاط ضعف في هذه الأنظمة، لأنّنا بدأنا ننتقل من عالم الدياليكتيك، أو الداوْ بتعبير لاو تزي، إلى عالم القيود و السيطرة و القوّة. كمثال، في العالم الفيزيولوجيّ مثلا، تشكّل الأمراض التي تصيب الكائن الحيّ نموذجا لهذه الأعطاب الداخليّة الناتجة عن ابتعاد الأنظمة الفيزيولوجيّة عن قوانين الوجود الأساسيّة: الجدل. في الأنظمة العضويّة، بدءَا بأبسط أشكال الحياة كالأمويبا وصولا إلينا نحن البشر، يكون دافع البقاء و الخوف من الزول هو المحرّك الأساسيّ وراء هواجس السيطرة و القوّة و الهيمنة و التحكّم. النتيجة هي كائن مستقرّ نسبيّا، ليس بسبب هواجس التحكّم هذه، فأغلب العمليات الفيزيولوجيّة المسؤولة عن استمرارنا في الحياة مثل نظام الدورة الدمويّة و نشاط القلب و الجهاز العصبي هي أنظمة ذاتيّة القيادة لا نتحكّم فيها و تعمل بتلقاء نفسها، بتناغم نسبيّ مع قوانين الجدل؛ غير أن استقرار هذا الكائن مهدّد بسبب تعقيده الداخليّ و التناقض الثابت بين مبدأ البقاء و هو المبدأ الأساسي المشكّل لكلّ الأنظمة الفيزيولوجيّة، و بين مبدأ الداوْ أو  الجدل، و هو مبدأ الزوال و التغيّر و هو الأقوى في الكون.
 عودة إلى عالم السياسة، يتجسّد مبدأ البقاء في النظم الاجتماعيّة و السياسيّة في كلّ المؤسّسات القائمة، كالأسرة و المدرسة و المسجد، و لاحقا، في الأحزاب السياسيّة و التنظيمات الإديولوجيّة و على رأسها حزب الطليعة الثوريّة بفهم لينين .Vanguardism و حتى أشكال الإبداع الفكريّ كاللغة و الفنون ليست مستثناة من هذا. كلٌّ حزب، مهما تكن دوافعه أو إديولوجياته، يظلُ تنظيما سياسيّا يرسّخ مبدأ البقاء لفئة أو طبقة معيّنة على حساب غيرها، و ذلك عن طريق آليات الهيمنة و التحكّم و السيطرة. تشترك المؤسّسات السوسيو اقتصادية، كالطبقة، و المؤسّسات السياسيّة، كالحزب، في كونها جميعا نظُما تعمل بناءًا على قانون البقاء الذي يتناقض جوهريّا مع قوانين الجدل التي تشترط الزوال و التغيّر. 
أيّ حزب، بمعزل عن طبيعة الإديولوجيّا التي يحملها، هو رهين التنظيم المؤسّساتي الداخليّ، و هو بذلك في تناقض مع قوانين الجدل. لذلك لا عجب أنّ كل الأحزاب السياسيّة في العالم، بعد مرور مدّة معيّنة، تتعفّن و تصير محض لافتات و شعارات بالية لا تعكس أيّ واقع قائم و هذا لأنّها تجد نفسها في صدام مباشر مع قوانين الحركة و الزوال و التغيير، سابحة عكس التيّار. الأمثلة على هذا أكثر من تحصى، بدءًا بالحزب الشيوعيّ الروسيّ الذي كان في يوم من الأيام يحكم نصف العالم و صار اليوم عبارة عن مكاتب عتيقة لتسجيل المنخرطين في روسيا، مرورا بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يوما ما يهدّد النظام المغربي و صار محض مكاتب لتوزيع بطاقات الانخراط و اللافتات الحمراء البالية من مناسبة لأخرى. إنّ الثابت الواحد في الكون هو الحركة/التغيّر، و كلّ الأنظمة التي لا تجاري هذا الثابت الكونيّ تنهار و تتعفّن.
إنّ الأنظمة الأكثر انسجاما مع هذا الثابت الكونيّ هي الطاقة نفسُها، تليها الأنظمة الفيزيائية الدقيقة كالتي دون الذرة و التي ما فوقها. يمكن الاستدلال على هذا بالإشارة إلى أن عمر هذه الأنظمة يصل إلى ملايين السنين دون انهيار، و هذا بسبب الحركيّة العاليّة و ضعف مقاومة التغيير في هذه الأنظمة، يحدث التغيير حينما تكتمل أسبابه الموضوعيّة و لا توجد ذرّات تأسف على الماضي و تحاول إحياءه، و لا إلكترونات تشتاق إلى الذرّة التي انفصلت عنها منذ دقائق. يحدث النفي بانسيابية عالية و يأخذ التاريخ مجراه. نقفز درجتيْن في سلم التعقيد، لنصل إلى الأنظمة الفيزيولوجيّة، لنجد بأنّ الأنظمة العضويّة أقل انسجما مع قانون الجدل، إذ صارت محكومة بقانون البقاء، الذي يدفع هذه الأنظمة العضويّة إلى تخزين الطاقة و مسح البيئة المحيطة و عدم القبول بكلّ أنواع التغيير لأنّ بعضها يهدّد بقاء الكائن الحيّ، إلا أنّ هذه الأنظمة ما زالت في حالة انسجام نسبي مع قانون الزوال و قابلة به، مقارنة بالمستويات الأكثر تعقيدا. إلى حين قدوم المستويات الاجتماعيّة/السياسيّة/الإديولوجيّة/الدينيّة/القانونيّة/الاقتصاديّة لتضيف طبقات عديدة من التنظيم شديد التعقيد و التركيز و التسلّط، القائم على تقديس مبدأ البقاء و تكريس كلّ الطاقات في سبيل حفظ هذا المبدأ. و هنا بالضبط يبلغ التناقض بين قوانين الجدل و قوانين العقل الإنسانيّ منتهاه. السؤال الشرعيّ هنا: هل ننصاع لقوانين الجدل بشكل كامل و نقبل بكلّ ما يحمله إلينا نهر التغيير؟
الجواب قطعا لا،  إذ إنّ تخليص الإنسان من كلّ هذه الأنظمة و المؤسّسات دفعة واحدة يعني تخليص الإنسان من طبقات الحماية التي طوّرها عبر التاريخ لتجنّب مجريات الطبيعة الفوضويّة؛ بمعنى آخر، ترك الإنسان يندثر. لكن الحلّ يكمن في تخليص الإنسان ممّا أسمّيه فائض السلطة Surplus of Authority، و هو ما يعبّر عنه تشومسكي بقوله " كلّ سلطة تفشل في تبرير وجودها، وجب خلعُها" و حسب هذا الأخير، فإنّ مهمّة تبرير السلطة دائما ما تقع على عاتق من ينادون بها، فالأصل هو غياب السلطة، لأنّ السلطة في الأصل نشأت اضطراريّا؛  عبء تبرير السلطة دائما ما يكون عبئا ثقيلا و تبرير وجودها دوما ما يكون أشبه بالمستحيل.
الكثير من السلطات تكون مبرّرة وقت نشأتها، غير أنّها تفقد أسباب وجودها بعد مرور وقت معيّن، و يحين وقت خلعها. المثال السابق عن الأحزاب السياسيّة مثال جيّد، فالحزب الشيوعيّ الروسيّ كان ردّة فعل طبيعيّة إزاء الاضطهاد الذي كان يرزح تحته الشعب الروسيّ من طرف آل رومانوف منذ القرن التاسع عشر، و ردّة الفعل العفويّة سنة 1905 و 1917 كانت من عمق قوانين الجدل، ثورة على البالي و القديم، و تجديدا للنظام الاجتماعي و انسجاما مع قوانين الجدل. لكن لم يمرّ وقت طويل حتّى بدأت هذه القوى الثوريّة نفسُها تتقادم و تصير رجعيّة، تجلّى ذلك في زحف مكاتب الحزب و تراجع دور المجالس العماليّة كمّا و نوعا في الاتحاد السوفياتي، و هكذا صار الحزب الشيوعي من قوة ثوريّة تدفع إلى الأمام، إلى قوّة رجعيّة تسعى نحو تركيز السلطة بدافع من الخوف من الإمبريالية. لا ننكر أنّ النظام البوليسيّ الذي نشأ في الاتحاد السوفياتي كان بدافع الخوف من الثورة المضادّة، إذ بالفعل كانت روسيا ساحة حرب مباشرة بين جيوش الدول الغربيّة المنضويّة تحت لواء الجيش الأبيض ، لذلك لجأ لينين إلى تأسيس اللبنات الأولى للدولة البوليسيّة و ذلك عن طريق تفكيك مجالس العمّال و تأسيس جهاز أمن الدولةKGB  و تركيز السلطة في يد الحزب البلشفيّ.
السؤال الكبير هو سؤال ما العمل: هل نفكّك أجهزة الدولة التي تحمي الثورة و نسلّمها للإمبرياليّة التي من الحتميّ أنّها ستسيطر عليها؟ أم نبقي على أجهزة الدولة من أجل حماية الثورة؟ عند هذا السؤال بالضبط يتفرّع معسكر اليسار إلى مدارسه المتعدّدة، أناركيّة و سلطويّة، يمين ماركسيّ ( لينين) و يسار ماركسيّ ( روزا لوكسمبورغ). فأيّ جواب لهذا السؤال؟ أقول لمن يطرحون هذا السؤال يبتغون من ورائه تبرير الدولة البوليسيّة: تذكّر مبادئك!
أوّلا: تذكّر أنّ الثورة لم تنجبها لك أمّك لكي تكون وصيّا عليها و تحميها، فهي شأن عام و فقدانها شأن عامّ، يقوم بها الشعب، يفقدها الشعب، و يستعيدها الشعب. بتعبير الأوكراني نيستور ماخنو " حريّة الجميع هي مسؤوليّة الجميع". لا يمكن، تحت أيّ ذريعة، أن تقيم لنفسك أجهزة التسلّط و التحكّم و القمع من أجل غاية نبيلة، فالغاية لا تبرّر الوسيلة، و في اللحظة التي تقدّم فيها الحريّة على أشلاء المعارضين، تفقد هذه الحريّة معناها و تصير بلا طعم. إنّ القراءة عن جرائم الدولة البوليسيّة في عهد ستالين مثلا، و التي وثّقها جيّدا الكاتب السوفياتيّ الحائز على نوبل ألكسندر سولزينتسين في "أرخبيل الغولاغ"، لكفيلة بأنْ تجعلك تفضّل العيش إسكافيّا وضيعا في بريطانيا القرن الثامن عشر على أن تعيش عاملا في موسكو القرن العشرين. لا نتحدّث هنا عن  المعارضين الروسيين الذين مارسوا حقّهم  المقدّس في التعبير عن رفضهم لنظام حكم معيّن، بل نتحدّث عن  آلاف العمّال و الفلّاحين الذي قُرعتْ أبواب منازلهم ليلا من طرف عناصر الكي جي بي و اختطفوا من أسرّتهم إلى سيبيريا خطأً لأنّ رئيس دائرة المخابرات اشتبه فيهم، أو قرّر فعل ذلك ليزرع الرعب في قلوب من يفكّرون في معارضة الثورة التي ستجلب الحريّة.
لا نتحدّث هنا عن أخطاء فرديّة متفرّقة، بل عن سلوك ثابت في تاريخ كلّ الأنظمة الماركسيّة من بيونغ يانغ إلى كاراكاس. في آخر المطاف، يظلّ المسؤول عن تنزيل أيّ مشروع اشتراكيّ هو الفرد الذي نشأ و ترعرع في بيئات نفسيّة مريضة، و حصوله على أدنى نصيب من المسؤوليّة يشكّل خطرا كبيرا عمّن حوله، فكيف إذا كان لديك الآلاف من عناصر المخابرات و البوليس الرفاق الذين نشؤوا في بيئات اجتماعيّة مشوّهة. حتما سينتج لديك نمط من السلوك القمعيّ الثابت عبر المكان و الزمان، و هو الذي نراه كما أشرت في كل مكان يوجد فيه نظام تفوح منه رائحة الماركسية. أنت لا تحتاج إلى الذهاب إلى كاراكس لكي تلاحظ هذا الأمر، نظرة بسيطةٌ على الجامعات التي يسيطر عليها اليسار كفيلة بأن تعطيك نظرة عمّا ستؤول إليه الأمور في حالة وصل هؤلاء إلى حدّ إقامة دولة. باسم حرمة الحرم الجامعيّ يتم قمع آلاف الطلبة مع صديقاتهم بحجّة أنّهم يمارسون "الرذيلة" في الأرجاء، و طرد الطلبة من الأماكن العامّة بحجّة أنّ الفصيل الفلانيّ بصدد تنظيم أيّام ثقافيّة، أو حتّى تصفيّة الحسابات الداخليّة بالسلاح و الانقضاض على بعضهم البعض ليصبح الفصيل أم أربعة و أربعين. الأمثلة على هذا كثيرة، في جامعة تورونتو الكنديّة وصل الأمر ببعض الماركسيّات و النسويات و المتحوّلات جنسيّا إلى استصدار قرار من رئاسة الجامعة يمنع استعمال الضمائر " هي" أو "هو " للإشارة إلى أيّ طالب قبل أخذ قرار من هذا الطالب حول نوع الضمير الذي يفضّله، إذا إن الإشارة إليه كذكر و أنثى هو اضطهاد لكيانه الجنسيّ المحتملْ. هذا الإسفافُ ليس بغريب، لو كانت البيئة القانونيّة في كندا تسمح بالأسوء، لحدث الأسو. إذن فنحن نتحدّث عن ثوابت في سلوك الفرد المتبنّي للفلسفات الشموليّة " ماركسيّة، إسلاميّة، يمينيّة محافظة ...". إنّه يمكن أن يكون فردا مريضا، و حينما يجد المريض المحتمل نفسَه جزءًا من نظام له سلطة و قوّة، لا يتوانى عن تجسيد مرضه النفسيّ في سلوكٍ مريضٍ. و لا يمكن لسلوك الجزء السويّ من النظام أن يعوّض عن ذلك الجزء المريض. إنّ هذه الفكرة التي عبّر عنها باكونين بقوله " إن السلطة تفسدُ أفاضلكم " لهي صحيحة بحكم تكرارها في التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق